منوعات ثقافية

المدنية 

    غالباً ما يَقومُ مصطلحُ المدنيةِ بتعريفِ مجتمعِ كمصطلحِ للثقافةِ العامةِ المارِّ بأطوارِ تَشَكُّلِ الطبقةِ والمدينةِ والدولة. ذلك أنّ التحولَ الطبقيَّ والتمدُّنَ والتدوُّلَ تصنيفاتٌ أوليةٌ لمجتمعِ المدنية. أي أنّ المجتمعَ هنا مجتمعٌ متمايزٌ طبقياً ومتمدنٌ ويكتسب مفهوم الدولة. وبمنوالٍ ملموسٍ وتاريخيٍّ للتطور فإنّ كلاً من ظاهرةِ التمايُزِ الطبقيِّ البارزةِ في المجتمعِ العشائري”  والقَبَلِيِّ المُفعَمِ بالمساواة، وظاهرةِ التمدنِ المتأسسةَ على خلفيةِ مجتمعِ الزراعةِ – القرية، وظاهرةِ التدولِ المنبثقةَ من أحشاءِ المجتمعِ الهرميّ هذه جميعُها تَقومُ بوصفِ المدنية. ويتجلّى مجتمعُ المدنيةِ بشكلٍ ملموسٍ كلما تطوَّرَت علاقةُ التحكمِ بالطبيعةِ الاجتماعيةِ بمنوالٍ أحاديِّ الجانب، وكلما اتَّخَذَت حالةَ تناقضٍ المحتدم طردياً جنباً إلى جَنبٍ مع العلاقةِ التكافليةِ المبنيةِ على المجتمعِ – الطبيعة. ولكي يُطَوِّرُ كينوناتٍ بُنيويةً ومعانٍ وأحاسيساً خُلُقِيةً وجماليةً مغايرةٍ في المجتمع والسؤال هنا هل المدنيةُ تطورٌ إيجابيٌّ أم سلبيٌّ بالنسبةِ للمجتمع؟ إنه موضوعُ جدلٍ وسجالٍ مفتوحٍ على مصراعَيه. فعلى صعيدِ مُشَيِّدي التاريخِ من وجهةِ نظرِ الشرائحِ المهيمنةِ والمستعمِرة، تُعَدُّ المدنيةُ تطوراً تاريخياً عظيماً، بل هي التاريخَ بِعَينِه. في حين تُعتَبَرُ كارثةً مُفجِعةً وفقداناً ليوتوبيا الجنةِ من جهةِ الذين يُعَرِّفون أنفسَهم بالشرائحِ القابعةِ تحت نيرِ القمعِ والاستغلال. وهذا هو الصحيح. من هنا، فأن ظهور التبايُنِ في الفكرِ والخُلُقِ والمشاعرِ الجماليةِ في مجتمعٍ يُعاني هذا التناقضَ حتى الأغوار هو من دواعي الطبيعةِ الاجتماعية. وغالبا ما تشيرُ الحروبُ إلى هذه الحقيقة. في حين أنّ وجودَ ممارساتٍ اجتماعيةٍ يمارس فيها الإفناءُ الجسديُّ بكثافةٍ كالحربِ مثلاً لا يُمكِنُ إلا أنْ يُعَبِّرَ عن مجتمعٍ متجزئٍ حتى أعماقِه. أما تَجَزُّؤُ المعنى فَيُعَبِّرُ عن الحربِ الأيديولوجية التي تُفيدُ بدورِها حربِ هيمنةٍ تؤثرُ –بأقلِّ تقدير– بما يُعادِلُ الحربَ الجسديةَ التي تمارس بكثافةٍ ضمن مجتمعِ المدنية. وبينما يَبسطُ الطرفان المتصارعان في مجتمعِ المدنيةِ فوارقَهما التي تُمَيِّزُهما عن بعضِهما بعضاً عن طريقِ الحروبِ الأيديولوجيةِ والجسديةِ والمؤسساتيةِ من جهة فإنّ كِلَيهما لا يتوانيان عن ذلك من الجهةِ الثانيةِ عن التعبيرِ عن ذاتِها ككُلٍّ متكاملٍ من البنى والمعاني الأساسيةِ التي تقتضي بدورِها الهيمنةَ والسيرورة. بل ويَزعَمُ كلٌّ منهما أنّ المجتمعَ الحقيقيَّ يتكونُ منه هو، وأنّ المجتمعَ يجعل نفسَه وجوداً بهذه الشاكلة. وتظلُّ الحقيقةُ الرئيسيةُ للمدنيةِ على هذا المنوال، مهما تَسَتَّرَت في دواخِلها بمراحل سبقت ذلك، ومهما تجسدَت في مؤسساتٍ مختلفةٍ أو تقمَّصَت معانيَ مغايرة.

الظاهرةُ الأساسيةُ المُلاحَظةُ في سياقِ تصاعُدِ مجتمعِ المدنية، هي ابتلاعُها طردياً للمجتمعِ الذي تنامى بين طواياه، وصَهرُه إياه داخلَ بوتقةِ أجهزةِ العنفِ والاستغلال وقيامُه تأسيساً على هذه الظاهرةِ بتفكيكِ وتدميرِ العلاقةِ الأيكولوجيةِ التكافليةِ القائمةِ مع الطبيعةِ الأولى مُحَوِّلاً بالتالي ذاك المجتمعَ إلى مَصدرٍ للموارد وقيامُه باستثمارِه إلى حينِ نفاذِه تدريجياً. والتساؤلُ المطروحُ في هذه الحالة هو: “هل سيتبعثرُ المجتمعُ بالتناقضاتِ الداخليةِ أم بالتناقضاتِ الأيكولوجية؟”، وهذا باتَ سؤالاً مرحليّاً قائماً. والصحيحُ هو استحالةُ تَجَنُّبِ الطبيعتَين الأولى والثانيةِ لمعاناةِ الكوارثِ الكبرى تحت نيرِ سيادةِ التناقضَين معاً  وفي حالِ عدمِ حصولِ تحوُّلٍ إيجابيٍّ جذريٍّ في المدنية. أما التقييماتُ التي تَذهبُ إلى القولِ باستحالةِ عيشِ المجتمعاتِ بلا مدنية، والتي تَنظرُ إلى المجتمعاتِ المتحضرةِ على أنها مجتمعاتٌ ثريةٌ ومنيعة وفهي تقييماتٌ أيديولوجية، وغالباً ما تَعكسُ براديغما النخبةِ الاحتكاريةِ التَّحَكُّميةِ الاستعمارية. والمستوى الذي بَلَغَه التمايُزُ الطبقيُّ والتمدنُ والتدول، تُقَيِّمُه كافةُ الأوساطِ العلميةِ ذات السيادةِ بكونِه سرطاناً اجتماعياً (والسرطانُ الجسديُّ متعلقٌ بهذه الواقعة). وثمة مؤشراتٌ تَزيدُ عن الحدِّ في هذا المضمار. وما التسلحُ النووي، ودمارُ البيئة، والبطالةُ البنيوية، المجتمعُ الاستهلاكيّ، والتضخمُ السكانيُّ المفرط، والسرطانُ البيولوجيّ، والأمراضُ الجنسية، والإباداتُ المتزايدةُ ماهي الا بضعةٌ أوليةٌ موسبيلا للنفاذ نظرا تلك المؤشرات. وبناءً عليه، فالحضارةُ – العصرانيةُ الديمقراطيةُ تُصبحُ مع الزمنِ بديلاً كسبيلٍ للنفاذ نظراً لإخراجِها المدنيةَ المتناقضةَ والسرطانيةَ السائدةَ عن طابعِها التسلطيِّ والاستعماريّ، والأمرُ الصحيحُ هو النظرُ إلى انهيارِ المدنيةِ القديمةِ على أنه تصاعُدُ للحضارةِ الديمقراطيةِ واحتلالُها المنزلةَ الرئيسية، عوضاً عن تقييمِها كانهيارٍ للبشريةِ قاطبة. ومن الأهميةِ بمكانٍ الإدراكُ في هذه الحالةِ بأنّ الثقافاتِ الاجتماعيةَ أكثرُ رسوخاً وديمومة، وأنّ الثقافاتِ تملكُ القدرةَ على إحداثِ التبايُنِ والتطورِ في المدنياتِ من جهة، وأنه لديها القابليةُ لاضفاء التحولاتِ الجذريةِ عليها من الجهةِ الثانية. من هنا، فدعكَ جانباً من تقييمِ انهيارِ المدنيةِ في مجتمعٍ ما كخسارةٍ جذرية، بل ينبغي الحكمُ عليها كتطورٍ إيجابيٍّ إلى آخرِ حدّ فيما إذا فتحَ المجالَ أمام تطوُّرِ الثقافةِ كنوايا ومعنا ومعنىً في آنٍ معاً. ولَئِنْ مَهَّدَ الطريقَ أمام تحوُّلِ المدنية، فبإمكاننا تفسيرُ هذا التطورِ على أنه تحررٌ جذريٌّ وبلوغٌ إلى الحياةِ الحرة.

علي ابراهيم

عضو لجنة الاعلام في جبهة النضال الديمقراطي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى